الاثنين، ٣١ ديسمبر ٢٠٠٧

عبقرية الشعب المصري


يعاني الشعب المصري كثيراً في الربع قرن الأخير كما لم يعاني من قبل في تاريخه الحديث وبالتحديد بعد إستقلاله, يأس الكثيرون وأحبط الشباب ودبت الروح الإنهزامية من جديد وكأنها قدر مكتوب لا فكاك منه ولا هروب, كل ما يحيط بالشعب المصري حالياً يدعو إما للهجرة أو الإنتحار أو حل عبقري يتعايش من خلاله المصريين مع واقعهم الأليم متكيفين معه ومندمجين في منظومته, وكالعادة, وكما يقول التاريخ لم يستسلم الشعب المصري لآلمه ومآسيه, بل شرع في ضبط إيقاع حياته على وضعه الجديد ومن خلال حيل أقل ما يقال عنها أنها عبقرية بحق وتنم عن خبرة تاريخية طويلة وعميقة تتوارثها الجينات الوراثية المصرية بأمانه ودون كلل أو ملل, فنرى مثلاً أنه عند دخول مصر في عصر الفضائيات المشفرة وقانون (إدفع لتشاهد) لم يلبث الشعب المصري كثيراً أمام تلك المعضلة الجديدة ولم يستسلم لها, بل إنطلقت العقول العبقرية المصرية لتحلق في سماء الفضائيات والشبكات هي الأخرى لتلقن الرأسمالية الوحشية (وهو ما سنراه كثيراً كدليل على الرفض المصراوي القاطع لها) درساً علمها كيف ترحم المنسحقون تحت تروسها بل وتستجديهم لئلا يسحقوها, فأنطلقت الشبكات الأرضية في مدن ومحافظات مصر كالنار في الهشيم, وفي خلال أقل من سنه صارت مباني مصر كشباك العنكبوت, ولم يخلو بيت من (وصله) تسلي أفراده وتشعرهم بنصرهم على من يستغل حاجتهم, ولم تكن كابلات الوصلات اللاعب الوحيد في رسم خيوط بيت العنكبوت, ولكن دخلت وصلات الانترنت كمنافس قوي وعنيد ويتضخم بإستمرار أيضاً بعد تزايد الحاجه لها وإرتفاع أسعارها نسبياً بالنسبه لدخول المصريين, ومما زاد الطين بله ما فعلته وزارة الإتصالات من نظام جديد بنصف الثمن نعم, ولكنه يحدد الدخول للإنترنت بستين ساعه شهرياً فقط, وهو مما زاد من درجة العناد لدى الشباب وحمسهم أكثر لإقامة الشبكات وليتحمل الرأسماليون نتيجة جشعهم, ومن معركه لأخرى تنتقل كتائب الشعب المصري العبقرية لتضرب بيد من حديد على جشع التجار وتهاون الحكومة وتداعى النظام, فعندما وجد المصريون أنفسهم أمام تصريح قاسي (كالعادة) لوزير المالية يوسف بطرس غالي يقول فيه (زمن السلع الغذائية الرخيصة إنتهى) لم يجدوا بداً من اللجوء للحلول العبقرية حتى تستمر الحياة, فصارت العروض المخفضه التي يتنافس على تقديمها متاجر السلع الغذائية هي الأساس وليست الإستثناء, وخاصم المصريون المجمعات الإستهلاكية وإنطلقوا للشراء من البائعين المتجولين والأسواق الشعبية المنتشرة في الأحياء المتوسطة والفقيرة, وعندما إفتقد المصريون اللحوم الحمراء والأسماك توجهوا للدجاج مستغلين إنخفاض أسعاره نسبيا وتنوع أطباقه كتعويض مرضي عن فقدانهم للحوم, وفي أزمة أنفلونزا الطيور لم تيأس العبقرية المصرية من الوضع, بل تكيفت مع ما أستجد ورضيت ولو مؤقتاً بأقل القليل من البروتين الحيواني على أمل أن تعود الأمور لما كانت عليه, وعلى الصعيد الإجتماعي إزدادت الأمور سوءاً مع الشباب من الجنسين, فمع تأزم الوضع الإقتصادي وإنخفاض مستوى المعيشة وبالتالي فتور الشباب على السعي للزواج تفاقمت أزمة العلاقة بين الجنسين, وصار كلاً منهما يفكر في الآخر إشتهاءا وحاجه ورغبة, وكلما إزدادت الهوة بينهما كلما إرتفعت نسبة الإنجذاب جنسياً بصورة مطردة, فظهر للوجود من جهة الجنس اللطيف ظاهرة الحجاب المتحفظ بداية, ثم المودرن بمرور الوقت, حتى وصلت الأمور لتغطية الشعر ظاهرياً من أعلى وتعرية باقي الجسم فعلياً من أسفل, ثم توالت ردود الفعل للتغلب على شهوة الجنسين مثل الإسدال والنقاب الذي بدأ الإنتشار بصورة ملحوظة بعد فشل الحجاب في إطفاء لهيب الرغبة المستعرة, ولم تكن ردة الفعل العكسية تلك حكراً على الجنس اللطيف فقط, بل إمتدت للذكور أيضاً عندما إتجه قطاع ليس بالقليل منهم للجماعات الدينية بمختلف أشكالها وأنواعها, ومنهم من إلتزم بمظهر بدوي صحراوي وجد فيه الزهد والتقشف, ورخص الثمن أيضاً, وبالطبع أتاح الإلتزام الديني قدر أكبر من كبت الشهوات مما ساعد على علاج المشكلة الجنسية ولو مؤقتاً, ثم إتجه الشباب الجامعي على وجه الخصوص للزواج السري العرفي كبديل لا مفر منه لصعوبة الزواج وعدم قدرتهم على تلبية متطلباته, ولم يقف الزواج العرفي عند طبقة أو ثقافة معينة, فقد إنتشر كموضة بعد ظهوره كحاجه, وأصبح من أقصر الطرق لإشباع الرغبات والحصول على حياة زوجية بأقل التكاليف الممكنه حتى لو كانت زيجات مؤقتة, وتوالت الحلول العبقرية إزاء التغلب على المشكلة الإجتماعية الإقتصادية المشتركة, فظهرت أسواق الملابس منخفضة السعر, والأجهزة الكهربائية الصينية ذات الجودة الرديئة ولكن بسعر يناسب ردائتها, وبدا أنه من الممكن فك لغز مواصلة الحياة بالقدر الأدنى إذا إستمرت العقلية المصرية في إبتكار البديل دوماً ودون يأس, فبدأوا في ممارسة العادة المصرية الأصيلة في إطلاق النكات على نظام الحكم, ثم خاصموا العمل السياسي نهائياً بأحزابه وإنتخاباته وإستفتاءاته, وتوحدوا مع رموز شعبية بسيطة حققت حاجتهم للسياسة من جهة وقدمت حلاً عبقرياً لمواجهة نظام الحكم من جهة أخرى, وظهرت للوجود بدائل مثل إتحادات طلبة الجامعات الحرة (المنشقة عن الإتحادات الحكومية), كذلك ظهرت مجالس النقابات الموازية, والحركات الشعبية البسيطة كبديل للأحزاب الضعيفة, ومن السياسة للتعليم تتواصل مفردات العبقرية المصرية في فرض حلولها, فمع إنخفاض مستوى التعليمي والثقافي والمنهجي للمدارس الحكومية وعجزها عن تلبية مطالب الطلاب في التلقين بما يكفي للنجاح ودخول كليات القمة ظهرت فكرة الدروس الخصوصية كعامل مساعد بداية, ثم بديل كامل للمدارس بمرور الوقت, وتطورت الفكرة أكثر لتأخذ الدروس شكل شبه رسمي ممثلة في المراكز التعليمية التي إنتشرت إنتشار سريع محققه أرباح خيالية لأصحابها وللعاملين بها وعلى وجه الخصوص طبعاً المدرسين, وأصبحت المادة هي الرابط الرئيسي بين الطالب والمعلم, وتوارى العلم خجلاً كوسيلة بغية الوصول للكلية المنشودة من جهة الطالب وإرتفاع مستوى المعيشة بالنسبه للمدرس, ثم توالت البدائل ممثله في المدارس الخاصه ذات المصروفات الباهظة والمستوى التعليمي المتميز, وتحققت المعادلة بين الأغنياء ومتوسطي الحال والفقراء, فإتجه الأغنياء للمدارس الأجنبية واللغات, وإتجه متوسطي الحال للمدارس التجريبية والخاصه, وإكتفت الطبقة الفقيرة بالمدارس الحكومية مع مجموعات التقوية والدروس الخصوصية المنزلية على إستحياء وهم بالطبع الخاسر الأكبر في تلك المعركه التي لا يزال أمامها العديد من المصاعب وأهمها على الإطلاق الجدل الدائر حول إلغاء مجانية التعليم لنعود للوراء أكثر من خمسون عاماً كفاح المصريين خلالها لينالوا حقهم الطبيعي في تعليم جيد منخفض التكاليف, ولم تنس العبقرية المصرية الدين وسط كل تلك التحديات والمعارك, فظهرت الموروثات الشعبية الدينية التي تحض على الرضا بالمحتوم والإنصياع التام للقضاء والقدر والنصيب وشاعت ثقافة الإتكال والرزق الذي سيأتي كما هو مقدر مهما سعى الإنسان له, ولم تكتفي الموروثات الدينية بروح الإستسلام فقط, بل ساهمت أيضاً في التخلف عن ركب الحضارة والثقافة والفنون إراحة للعقل وتوفيراً للنفقات عن طريق تحريم الأخضر واليابس منها, وكثر الحديث عن فتاوي التحريم بداية من الفنون بجميع أشكالها ونهاية بالتنقيب في نفوس الأدباء والشعراء بحثاً عن كلمة أو لفتة يكفرون من خلالها, وسادت الفكرة القائلة بأن الماضي أروع من الحاضر والمستقبل, وأن الرجوع إليه سيحقق المدينة الفاضلة والأخلاق الحميدة والرخاء الإجتماعي والإقتصادي, فظهرت أفكار تحض على إسترجاع الخلافة الإسلامية, وعودة فكرة الشورى الغير ملزمة للخليفة, وإقامة الحدود, والإلتزام بالزي الإسلامي, وأسلمة كل مظاهر الحياة بداية من الأعراس والمآتم ونهاية بحف الشوارب وتقصير الثياب, وإنتشر الفكر المناهض للثقافة والحريات والديموقراطية والمجتمع المدني ممثلاً في رفض الحضارة الغربية بكافة مظاهرها وتطبيق هذا الرفض فعلياً على أرض الواقع في مجتمعنا الشرقي, وهنا كان البديل الديني العبقري رد قاسي على الحكومة العلمانية التي تطبق ديموقراطية شكلية ديكورية ذات طابع رأسمالي متوحش لا يعني بالطبقات الفقيرة ولا المتوسطة, وإنما جلّ إهتمامها هو طبقة الأغنياء والمترفين ذات الأقلية العددية والمكروهة شعبياً, ولم تقف الأمور عند هذا الحد, بل إستمر الدين كبديل عن السياسة في إنتخابات مجلس الشعب والنقابات, وبرز تيار الإخوان المسلمون على حساب وجوه حكومية شاخت وأفلست ولم يعد لديها ما تقدمه سوى الإستفزاز والتجاهل والعناد والذي أدى بالطبع لرد فعل مساوي في القوة ومضاد في الإتجاه من جانب المواطنين.

عبقرية الشعب المصري لم تكن دوماً موفقة في نهجها وطرق معالجتها لمشاكل الحياة اليومية, ومن أسوأ نتائجها على الإطلاق ترسيخ ثقافة التكيف مع الوضع الحالي بدلاً من مواجهته وتغييره بالوسائل الشرعية التي تضمن الحصول على الحقوق مع ضمان سلامة المجتمع, ولم تأخذ عبقرية المصريين طريقها الصحيح المحتوم للتطور إلا في الفترة الأخيرة بعد إستخدام سلاح الإعتصامات والمظاهرات كوسيلة جديدة غير سلبية كسابقاتها, فعندما شعر العامل المصري البسيط بأن حقه المهضوم سيصل به للنهاية المحتومة بالقضاء على قدرته على التكيف مع واقعه نهض وانشأ الإتحادات العمالية البديلة للإتحادات الحكومية والتي نجحت نجاح غير مسبوق في إسترجاع الحقوق وفرض كلمة العمال على النظام ممثلاً في مجالس الإدارات الحكومية وإتحاداتها, وظهرت في مصر حركة إعتصامات غير مسبوقة من الأسكندرية لأسوان, وإشتعلت المصانع والهيئات الحكومية وحتى بعض الإدارات داخل تلك الهيئات بنار المطالبة بتحسين مستوى المعيشة وإلا سيتوقف العمل وتتعطل المصالح, ونجحت الإعتصامات حتى أضحت هي القاعدة والإستقرار هو الإستثناء, ومع ذلك لا يمكن إنكار دور التكيف مع الظروف في الحفاظ على تماسك المجتمع وتأدية الغرض منه في البقاء على قيد الحياة رغم كل المصاعب والمشاق والأهوال التي يعانيها المواطن المصري في سبيل تحقيق هذا الهدف البسيط.

الخميس، ١٣ ديسمبر ٢٠٠٧

ما بين سطور المراجعات الفقهية, نرجو الإنتباه قبل فوات الآوان


هاقد ظهرت أخيراً إلى النور وثيقة المراجعات الجهادية بعد طول إنتظار, وهاقد رأينا كيف تنازل أصحاب الأفكار الجهادية عن أيدولوجياتهم في سبيل مجتمع أفضل, ورغم كم التنازلات الرهيب في الأفكار والمواقف إلا أن بين السطور تتوارى الكثير من الألغام التي قد تنفجر في أي وقت مستقبلاً ما لم يسارع أصحاب الأقلام النقدية في إبطال مفعولها, وإذا كان الكثير من المفكرين والسياسيين قد تملكتهم الفرحة من صدور تلك المراجعات لما فيها من أفكار إيجابية فإن الكثير أيضاً تخوفوا مما جاء من بين السطور تخوفاً عظيماً, وهم لهم كل الحق فيه ودون أدنى شك, وفيما يلي نستعرض بعض الأفكار التي دُست في الوثيقة كالسم في العسل علنا ننتبه لها قبل أن تصبح نبراساً يسير عليه الجهاديين الجدد بعد تنازلهم عن الموروثات القديمة :

1 – يقول الدكتور سيد إمام في حديثه عن (مجهول الحال) :

وقديماً كان يحكم لمجهول الحال في دار الإسلام بالإسلام, ومن هنا قال النبي-ص- :"تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" رواه البخاري, لأنه لا يجوز إبتداء غير المسلم بالسلام, وانما كان يحكم لمجهول الحال بالإسلام لأسباب منها :

1) التمييز في الهدى الظاهر (المظهر) بين المسلمين وبين غيرهم, إذ كان يجرى إلزام أهل الذمة بلبس الغيار (الثياب المغايرة للبس المسلمين).

2) إقامة حد الردة على من ينقض إسلامه من المسلمين.

ومع غياب هذين الأمرين لا يمكن القطع بالإسلام لمجهول الحال الذي لم يظهر منه شيء من علامات الإسلام أو الكفر.

ينتهي كلام الدكتورسيد إمام, ولا ينتهي الحديث عن نظرة المتشددين لغير المسلمين أو المرتدين, فلازال الإرث القمعي لغير المسلمين موجوداً, ولازالت النظرة الدونية سائدة لم ولن تتغير, فقط الذي تغير (وعلى ما يبدو أنه يسبب الضيق للجماعات) أن الزمان لم يعد يسمح بتلك الممارسات كما كان يسمح به سابقاً, فأصبح أهل الذمة (للأسف) يلبسون كأهل الإسلام, والمرتد صار طليقاً حراً لا يقتل (مع الألم) كما كان يحدث سابقاً, ومن هنا صار التعرف على مجهولي الحال (غير معروف إيمانهم من عدمه) مستحيل, ولو كانت الأمور كما في الماضي الجميل لجروا من رقابهم إلى محاكم التفتيش لنعبث في قلوبهم وعقولهم ونقيس مدى شدة الإيمان وعلى أساس النتيجة سيصنف البشر مستويات, قوي الإيمان جداً, قوي فقط, جيد, ضعيف, معدوم, ولكلاً منهم ثوابه أو عقابه بالطبع, ومما يحار العقل في تفسيره إصرار الجماعة على عدم الإبتداء بالسلام على غير المسلمين, كأنهم ليسوا بشراً أو في مرتبة أقل من المسلمين في مملكة الكائنات الحية, ورغم عدم إنسانية هذا الطرح على الإطلاق إلا أننا نرى إصرار غير طبيعي عليه كأنه فرض على المسلم لا يستقيم إسلامه بدونه.

2 – يقول الدكتور سيد إمام :

في حال علو المسلمين وتمكنهم وقدرتهم على الحرب وغلبة الظن بالظفر لا يجوز مسالمة الأعداء لئلا يفضي هذا إلى ترك الجهاد وإستفحال خطر العدو, وهذا كله – وكما سبق – مع العلو والتمكين لا مع العجز والإستضعاف.

ويقول أيضاً في ذات السياق :

وحتى مع المرتدين يتصرف المسلمون معهم بحسب قدرتهم ومصلحتهم, فقد خرج مسيلمة في حياة النبي – ص – وقدم عليه بالمدينة ثم أرسل رسوله (ابن النواحة) إليه وسكت عنهم, ولم يقاتلهم المسلمون إلا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وإن كان قد قال : "إن كفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي" في (مجموع الفتاوي ج28), وقال أيضاً : "إن المرتد لا يهادن ولا يقر على الردة بالجزية كالكافر الأصلي", إلا أن هذا كله عند قدرة المسلمين وعلوهم وتمكنهم من جهاد المرتدين.

ما يُفهم من كلام الدكتور سيد لا يحتاج إلى تفسير, فهو يؤكد وبصراحة يُحسد عليها أنه في حال تمكن جماعتة (أو أي جماعة ذات فكر إسلامي) من الحكم والإمساك بمقاليد قوة الدولة لن يتوانى عن الحرب, والحرب فقط, ولا سبيل لسلام أو محبة أو ود مع الجيران الكفرة, حتى لو في مقدورهم السلام فلن يقيموه, لأن الجهاد أهم, والقتال له الأولوية ومحو الآخر هو الغاية, وهذا الأمر لا يسري على الجيران الكفرة فقط, بل يمتد أيضاً لأي مسلم يرتد عن دينه في الداخل أو الخارج, ولم يذكر الدكتور سيد حكمه على غير المسلمين في أرض الإسلام, هل في حالة التمكين سيجاهدون ضدهم أيضاً ؟ أم سيتركونهم لحال سبيلهم لأن الجهاد الخارجي أولى ؟ في كل الأحوال نرى أن الفكر الجهادي لا يزال يطل برأسه من المراجعات (السلمية), فقط عند التمكين سيتحول لواقع عملي لا شك فيه ولا إبطاء في تنفيذه, فهل ننتظر تمكين الجماعات من الحكم حتى تتحول مصر لقاعدة جهادية (حكومية) تنطلق لتغزو أراضي الكفار من حولها ؟ وهل ستقام محاكم التفتيش مرة أخرى لتنقية المسلمون من المرتدون ومن ثْم تنفيذ حكم الردة عليهم ؟

3 – وفي معرض حديثه عن أوقات التمكين والإستضعاف يقول الدكتور سيد إمام :

كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (الصارم المسلول) ما حاصله :

"فمن كان متمنكاً في أرض أو وقت عمل بآيات قتال المشركين وأئمة الكفر, ومن كان مستضعفاً عمل بآيات العفو والصفح والإعراض عن المشركين", ولابن القيم مثله في كتابه (أحكام أهل الذمة).

ومما سبق نستنتج أن نظرة شيخ الإسلام ابن تيمية ومن بعده الدكتور سيد إمام للقرآن الكريم نظرة مزاجية بحته, فيقسمونه لأجزاء يستخدمون منها كل جزء على حدة في أوقات بعينها, فهم في حالة الضعف يصفحون ويتسامحون ويعرضون عن المختلفون معهم, وفي حالة القوة والتمكين لا يتوانون عن ذبح المخالف في أقرب فرصة طالما إمتلكوا القدرة على ذلك, وفي الحالتين يستندون للدليل القرآني على أفعالهم المتناقضة, فهل يوجد عبث أكثر من هذا ؟ هل يستوي ربط المطلق بالمحدود ؟ هل يدخل العقل أن نستخدم القرآن في حالتين متناقضتين لإصباغ الصبغة الشرعية على تناقض الأفعال ؟ مع الإصرار بالطبع على وصم المختلف بالمشرك أو الكافر, وهو ما نراه عبر الوثيقة من أول صفحة فيها لآخرها, فلا مجال لكلمة (الآخر) على الإطلاق, ويحار العقل كثيراً في جرأة الدكتور سيد إمام على الإستشهاد بكتابات ابن تيمية على طول الخط في وثيقة يفترض أنها سلمية وتدعو للتسامح, ومن المعروف عن كتابات ابن تيمية أنها مليئة بالفكر الجهادي السلفي الذي لا يملك في مواجهة الآخر سوى قتلة أو على الأقل إعتباره عدو أبدي إلى أن يعلن إسلامه مرغماً أو مقتنعاً, ومن المثير للعجب في الإقتباس أعلاه أن نجد شجاعة غير عادية في إستخدام الآيات القرآنية بتلك الصورة المخجلة, ويأتي السؤال الأساسي بناءاً على ما أورده الدكتور, هل القرآن يدعو (بالمطلق) للتسامح والصفح والعفو, أم يدعو (بالمطلق) لقتال الكفرة والمشركين ؟ أيهما نصدق ؟ آيات التسامح أم آيات القتال ؟ بأيهما نسترشد, الآيات التي تدعوا لإحتواء الآخر أم التي تدعو لقتاله ؟ بما فعله ابن تيمية ومن بعده الدكتور سيد إمام نقف على معضلة لا طاقة لنا بمواجهتها, هل إستمدت الجماعات الجهادية فكرها من القرآن في حالة جهادهم ضد المجتمع الكافر وإستمدت من نفس المصدر الفكر السلمي الآن ؟ كيف يستقيم أن تستمد من نفس المصدر (المطلق) فكرين متناقضين ؟ تلك هي المسألة.

4 – في موقع آخر للحديث عن الجهاد يقول الدكتور سيد إمام :

إن من له إمام أو أمير لا يجوز أن يفعل شيئاً من ذلك إلا بإذنه لقوله تعالى : (نما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه...) "النور : 62", وفي الصحيح أن النبي – ص- قال : "من أطاع الأمير فقد أطاعني, ومن عصى الأمير فقد عصاني" متفق عليه, ولهذا قال الفقهاء : (وأمر الجهاد موكول إلى الإمام) ذكره ابن قدامه الحنبلي في كتابه (المغني).

ثم يقول :

أن الغزو مع مع الأمير الفاجر القوي أفضل من لغزو مع الأمير الضعيف التقي, والقوة والضعف هنا هما بالنظر إلى خبرته بالحروب, وقال أحمد : "إنما فجوره على نفسه وقوته للمسلمين" وذلك لأن مقصود الجهاد إظهار الدين.

ويقول في موضع آخر :

وأعلم أن السمع والطاعة هما في الأصل لله وللرسول – ص – أي للدليل الشرعي من الكتاب والسنة لا لشخص الأمير, ولهذا أمر الله بالرجوع إلى الدليل عند التنازع مع ولاة الأمور وغيرهم قال تعالى : (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) "النساء :59), فلا تقبل أمراً يخالف الشريعة.

وإن كان أميرك أو مسؤولك فقيراً في العلم الشرعي فلا تقبل منه شيئاً تستريب فيه إلا بفتوى من مؤهل لذلك, وفي الحديث "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" حديث صحيح, لأن مثل هذا الأمير حكمه كالعامي يجب عليه أن يستفتي أهل العلم ويسألهم لا أن يفتي غيره.

وهنا نقع في ذات المشكلة, من نصدق ؟ الدكتور سيد إمام يحض في موضع على طاعة الأمير دون شروط مسبقة مستنداً إلى حديث شريف, ويعود في موضع آخر ليحث المسلمين على عدم الطاعة الأمير فيما يخالف الشريعة مستنداً إلى القرآن والسنة ! ومرة يقول أن طاعة الأمير الفاجر القوي أفضل من طاعة الأمير الضعيف التقي, ثم يعود فيقول أنه لا طاعة لأمير يخالف الشريعة ! فهل يوافق الأمير الفاجر الشريعة حتى نتبعه ؟ أين المعايير الثابتة التي سيسير عليها فيما بعد من يتبعون الوثيقة ؟ يطيعوا الأمير طبقا لحديث الرسول أم يرفضوا طاعته طبقاً للقرآن وحديث الرسول ؟ يتبعوا الفاجر القوي أم يعارضوا الأمير المخالف للشريعة الذي يحتمل أن يكون فاجر وقوي أيضاً ؟ وفي حالة الإلتزام بطاعة الأمير ولو كان فاجر, هل وقتها سيكون لزاماً على أتباعه تنفيذ أوامره بغض النظر عن نتائجها فقط لأنه يوجد حديث شريف يحض على طاعة الأمير والنهي عن معصيته لأن طاعته من طاعة الرسول, وفي حالة ما كان الأمير يخالف الشريعة, هل وقتها ستصح معارضته مع وجود الحديث سالف الذكر ؟ بالطبع إنها معضلة سيعاني منها من سيلتزمون بما جاء في الوثيقة, والتي بطبيعة الحال لن تصمد طويلاً أمام كم التناقضات التي أوردناها وستتسبب مستقبلاً في ظهور الإختلافات والإنشقاقات بين الجماعات الجهادية لتظهر من جديد جماعات تتبنى الفكر السلفي الجهادي التكفيري بناءاً على هجرتهم لما جاء في الوثيقة, ونعود من جديد لتكرار نفس التجربة الأليمة وكأن شيئاً لم يكن.

فهل تنتبه عقولنا لما بين السطور وما جاء متخفياً في عباءة المراجعات تحت ستار قبول الآخر ونبذ العنف وإلغاء التكفير ؟ هل نعير تلك الملاحظات الإنتباه ؟ هل نضع في حسباننا أنهم لا يزالون يطلقون على الآخر لفظ الكافر ولايزالون مصرون على عدم البدء بالسلام لغير المسلم وأنهم ينتظرون التمكين لإعلان الحروب وينتظرون القوة لفرض الأفكار بالإرغام مرة أخرى ؟ أرجو أن تنفتح أعيننا على السلبيات ولا ننخدع بالإيجابيات قبل فوات الآوان.