الاثنين، ٤ يناير ٢٠١٠

غُربة-قصة قصيرة

لم يكن يعلم أنه سيجيء اليوم الذي يختار فيه بملىء إرادته أن يسافر لإسرائيل...كانت دهشته في أوجها وهو يرى يداه تسارع في الكتابة على الكيبورد ليخبر صديقه أن آتِ لإسرائيل كما فعل هو منذ خمس سنوات...يأس وإحباط وجوع ومهانه واجههم في بلده فلم يستطع المواجهة وقرر أن "أكل العيش" لا يعرف مكاناً بعينه...وأن من أوصلوه لتلك الحاله يتحملوا نتيجة فعلتهم سواء كانت الحكومه أو عائلته أو حتى نفسه...إنتظر عقد العمل القادم من صديقه وعندما إكتملت أوراقه قرر أن ينفذ الخطة كما رسمها إقتباساً ممن فعلوها من قبل...أخبر أحد سماسرة البحر بأنه يرغب في الصعود على مركب تجارية صغيرة متجهه إلى إسرائيل في أقرب فرصه...إقترض المبلغ المطلوب منه من السمسار وصارت الخطة في حيز التنفيذ

عندما إقتربت السفينة من شواطىء إيلات غامره شعور بالخوف ممتزج بالإثارة المقبله من مغامرة غير محمودة العواقب...توجه فور نزوله إلى عنوان صديقه آملاً أن يجد عنده الملاذ والأمان وليخفف عنه وطئة الشعور بالغُربة في بلد العدو...إستقبله صديقه بترحاب مبالغ فيه وأوضح له ما تخبئه الأيام المقبله...ثم دارت العجله

بعد عمل متواصل لمدة شهرين لم يتحمل إهانات صاحب العمل اليهودي المتعصب...لم تكن الإهانات شخصية بقدر ما كانت دينية...منعه من أداء الصلاة في وقت العمل في حين أنه كان يصلي كلما سنحت الفرصه...منعه من إمتيازات عديدة كانت تُمنح لزملائه اليهود...لم تكن لديه القدرة على تقديم شكوى لمكتب العمل كونهم دائماً في صف اليهود فقط...وجاءت الطامه الكبرى حين سمع بالصدفه حوار دار بين زملائه وهم يعتقدون في غيابه يصفون فيه المسلمون بأنهم ليسوا من بني آدم كونهم ليسوا يهود...وأنهم لا يختلفون عن الحيوانات كثيراً كما قالت التوراة...هنا لم يتحمل الإهانة في آدميته ودينه وقرر أن يترك العمل دون أن ينبس بحرف

مر إسبوع ولم يجد عمل آخر...

مر شهر وهو لازال عاطل...التمييز في كل مكان يحيط به...لا توجد حقوق إنسان بغض النظر عن دينه أو عرقه...النظرة الدونية تحيط به...الإتهامات بالهرطقة والكفر والشرك تلاحقه...يرى المساجد تتعرض للرمي بالحجارة والهتافات المهينة ولا يستطيع أن يفعل شيئاً...ترك منزل صاحبه وخرج للعراء خجلاً...جاع وإتخذ من الرصيف فراشاً وذابت ملابسه ولم يتخلى عن مبدأ أن يعمل بكرامه....وجاءته أخيراً الفرصه

مر بمطعم صغير يصنع مأكولات شرقية وغربية يديره يهودي طيب ويعمل به مسلمون ويهود في تآلف ووئام ندر وجوده...قرر أن يفعل المستحيل حتى يعمل بأي وظيفة بالمطعم الحلم...سأل عن مكان إقامة صاحب المطعم وإنتظره أمام باب بيته...وعندما قابله شرح له موقفه سريعاً..قال له أنه مضى عليه إسبوعان لم يتذوق فيهما طعام خارج صناديق القمامه...وأن طعم ماء الصنبور أصبح سراب يطارده في أحلامه...نظر له صاحب المطعم ملياً ثم سأله عن أسباب تركه لعمله السابق ولماذا لم يعمل في مكان آخر رغم توافر العمل...قال له أنه لم يجد من يحترم دينه ويراعى مشاعره ويعامله بشخصه لا بمعتقده...اطرق صاحب المحل برأسه مفكراً ثم أشار له بالرحيل لأن اليوم السبت وممنوع فيه ممارسة أي عمل من أي نوع حتى لو كان توظيف عامل...قرر أن يذهب إلي المطعم صبيحة الأحد...وجد لافتة معلقه على مدخله تشير بعدم الحاجه للعماله لمدة شهر على الأقل

فيما بعد علمت أسرته بتفاصيل القصة من زميله الذي عرفها بدوره من صاحب المطعم قبل أن يتوفى صديقه بإسبوع...وكان صديقه قد أخبره أن سيعمل بهذا المطعم الوحيد قبل وفاته مؤكداً على أن الحظ سيبتسم له أخيراً...أما تفاصيل الوفاة فلم تختلف كثيراً عن مسار حياته منذ أن وطأت أقدامه الدولة اليهودية...فقد وجدوه ملقى على وجهه من أثر هبوط حاد في الدورة الدموية نتيجة سوء التغذية مع تسمم من طعام صناديق القمامة...ولم ينقله أحد للمستشفى لأنه كان يوم سبت

====================================================

قرروا إيفاد قافلة من رجال علماء الفيزياء والكيمياء والطب والفلسفة والدين المسلمون إلى أوروبا بغرض إعلام كبار رجال الدولة هناك بمستجدات العلم الحديث وتعريفهم بأصول الدين الإسلامي في محاوله للتقريب بين الحضارتين...خاصة بعد الأنباء التي وردتهم بقيام محاكمات علنية لمواطنين بتهم الهرطقة والإلحاد منهم يهود ومسلمون...كما علموا بإنتشار الجهل والخرافة وإستخدام الدين في الطب والعلوم والكونيات ممزوجاً بأساطير محلية مما أدى لشيوع الجهل والتطرف والتواكل...قرر الخليفة إرسال تلك القافلة لعلها تساهم في الحد من التمييز والعنصرية ضد المسلمون دون اللجوء للحروب وإستخدام القوة العسكرية

إستهلت القافلة جولتها من إيطاليا بإعتبارها الأقرب لشمال أفريقيا وتعتبر البوابة الجنوبية لأوروبا كلها...توجهوا لصقلية ثم سيردينا ثم صعوداً لنابولي ومنها لروما...شاهدوا المحاكمات في الميادين والإعدام لرجال دين مسلمون بالحرق والصلب...ولولا حماية جنود الملك لمزقتهم الجماهير المتعصبه تمزيقاً...تكلموا مع شهود مسلمون تحولوا للمسيحية بالقوة تارة وإذعاناً من قسوة الإضطهاد والتمييز تارة أخرى...كثيراً من المسلمون تركوا دينهم لفقرهم الشديد وعدم إستطاعتهم تحمل الضرائب التي فرضها عليهم الملك بإيعاذ من رجال الدين المسيحيين الذين قالوا له إن إنتشار الدين بالإعتماد على إرهاق الهراطقة بالضرائب هو فعل يُرضي الرب الذي سيدخل على نفوسهم السكينة بعد هدايتهم للدين الصحيح...حاولوا بكل الطرق والوسائل إقناع علماء الدين الذين صاروا علماء طب وكيمياء أيضاً بأن العلم لا يعترف بالكتاب المقدس كمرجع علمي وأن أشهر علماء المسلمين لم يستخدموا القرآن قط لتنفيذ إختراع أو لإكمال بحث علمي...رأوا المدارس تتحول لكنائس والمعلمين لكهنه والمربيات لراهبات والتلاميذ لأصنام تسمع ولا تفقه...ساروا في الشوارع متخفيين في زي كهنة مسيحيين كتجربة مستعينيين بمترجمين فرأوا تقبيل الأيادي طلباً للبركة والإلتفاف حولهم للسؤال عن أدق تفاصيل الحياة ...رأوا نفاق المنافقين من تجار غشاشين ومرابين وقطاع طرق يأتون طلباً للظهور بمظهر المتدينيين درءاً للشبهات التي تحيط بهم...فوجئوا بتطبيق القانون بحذافيره على غير المسيحيين وتساهل القضاة مع المسيحيين...لم يجدوا مسلم أو يهودي واحد في المناصب الحكومية الرفيعة...لم يخلو يوم من بيان للملك أو وزرائه فيه إنحياز واضح للمسيحيين على حساب غيرهم...حاولوا التفاهم مع الملك ووزرائه بخصوص تطبيق القانون الملكي على الجميع دون تمييز لأن كل مواطنيه هم أبنائه...فكان الرد أن أبناء الرب وحدهم هم المشمولون برعايته وحفظه...وأن الهراطقة ليس لهم مكان سوى في الجحيم الأرضي بيده والسماوي بيد يسوع...كان الرد الصادم بمثابة طرد صريح للقافلة الغير مرغوب في وجودها...فلملم أفرادها عتادهم وغادروا إيطاليا قبل أن يكملوا جولتهم متحسرين على حال أبناء دينهم وغيرهم ممن هم ليسوا مسيحيين على وطن يلفظهم ويحرقهم ويضطهدهم ويجبرهم على دين لا يرغبوه لمجرد أن السلطة للأغلبية الدينية المسيحية

========================================================

أسرته لم تتحمل مرارة الفقر وقرصة ثعبان الجوع أكثر من هذا...ذاب حذائه بحثاً عن فرصة للسفر خارج وطنه بعد أن ضاقت به السبل...نيودلهي تحولت لأكبر عشة صفيح في العالم...الروائح لا تطاق والقذارة صارت قاتلة بمعنى الكلمه...الجوع هو الأصل والطعام من الكماليات التي صار وجودها يجلب الحسد لأصحابها...النوم الخالي من الحشرات والقيء والخراء حلم بعيد المنال...وبعد شهور من البحث عن نصف فرصة فوجىء بصاحب متجر البقالة يصيح بإسمه مبتهجاً...كان تليفون من شركة توظيف عاملين بالخارج تطلبه للسفر فوراً لمصر لإحتياجهم الفوري لعمال من مختلف الجنسيات لبناء الخط الرابع لمترو الأنفاق...تقدم بأوراقه بأقصى سرعة ممكنه وإنتهت الإجراءات في لمح البصر ثم أغمض عينه حالماً بطعام ساخن وملابس نظيفة وشربة ماء نقية

لم يفكر أن يحصل على يوم راحه...الدقائق تعني أموال...الطعام رخيص والمياه متوفرة ولا توجد مشاكل في الإقامه التي خصصتها الشركة للعمال...إنتقل من الظلام للنور ومن الجحيم للنعيم...مرت ثلاثة أشهر عليه سريعاً تحصّل خلالها على مبلغ جيد من المال أرسله لعائلته فكان الرد فرحة غامرة برؤية الأموال بعد غياب طويل...أحس أخيراً أن الكون يبتسم له وأن زمن المعانة إنتهى على الأقل حتى إنتهاء المشروع الضخم...وحتى بعد إنتهاؤه سيجد فرص كثيرة في دبي بعد تعرفه على عدد من العمال الهنود الذين سبق لهم العمل هناك من قبل ولديهم علاقات جيدة بأرباب العمل القادرون على توظيفهم من جديد بعد إنتهاء عقودهم في مصر...كل شيء كان يسير على ما يرام إلى أن حدثت المشاجرة

كان في غرفته يضيء الشموع لكريشنا ليصلي له صلاة الشكر على نعمه العديدة التي أفاض بها عليه بعد طول معاناة..شكره على إنتشال عائلته من براثن الجوع وإنقاذهم من الموت مدفونين تحت أكوام القاذورات...كانت صلاته خاشعه متأمله صامتة روحانية أراد من خلالها إرسال الرسالة كامله لربه عله يزيده...خرج من غرفته ليجد مجموعه من العمال المصريين يقفون بإنتظاره غاضبين متحفزين يبصقون على الأرض ناظرين له بإحتقار...لم يفهم سر غضبهم لا لقلة ذكاء منه وإنما لأن أحدهم عالجه بدفعه قوية أسقطته أرضاً فاقداً عمامته الهندوسية ومعها جزء لا بأس به من كرامته...صرخوا بوجهه بلغتهم التي لا يفقه منها شيء...أشاح بيده محاولاً إفهماهم أنه لا يعرف ماهية خطيئته لكنهم لم يعيروه إنتباهاً...تركوه ملقى أرضاً وذهبوا لكبير المهندسين شاكين مشيرين بأيدهم ناحيته كأنهم يتهموه بتهمة أقل عقوبة عليها الإعدام لذنب يجهله حتى الآن....توجه كبير المهندسين ناحيته متحدثاً بالإنجليزية موضحاً له أن ممارسة طقوسه الدينية غير مرغوب فيها هنا لأنه يعيش في بلد إسلامي لا يعترف سوى بثلاثة ديانات لا غير...وديانته ليست منهم...وأنه لا سبيل على الإطلاق لممارسة شعائر دينه طالما كان على الأراضي المصرية

صدمته مما حدث أجبرته على الإنعزال في غرفته بقية اليوم...لم يفهم سر كره زملائه له بسبب دينه رغم أنه لم يتسبب في مشكلة واحده طوال فترة عمله...وكان دوماً مواظباً على الصلاة وممارسة شعائر دينه دون أن يفرضها على غيره...تذكر أنه من وقت قدومه لمصر لم يشاهده أحد يمارس طقوس دينه إلا مؤخراً عندما دخل احد العمال غرفته بالخطأ أثناء تعبده...هنا فقط إنقلب عليه زملاؤه وإعتبروه من الأعداء فقط لأنه مختلف عنهم...هل يتخلى عن دينه وربه في سبيل لقمة العيش؟ أم يحاول أن يأخذ حقه في ممارسة طقوس دينه بالقانون الذي هو بكل تأكيد السبيل الأضمن في دولة كبيرة بحجم مصر؟ لم يفكر كثيراً...كريشنا هو من أنعم عليه بالمال والطعام بعد طول حرمان ومن الجحود التخلي عنه في سبيل عمل قد يحرمه منه كما منحه له من قبل...ولو تسبب دفاعه عنه في تركه العمل فبكل تأكيد سيكافئه بما هو أفضل...إذن فليكن القرار بالمواجهة

صبيحة اليوم التالي توجه لكبير المهندسين طالباً منه كلمه جانبية...شرح له أن صلاته لربه واجبه عليه لا يمكن التخلي عنها...وأنه من حقه أن يمارسها طالما أن لا يؤذي بها غيره...ولو رأى من يأكل لحم البقر لن يتدخل رغم الإيذاء المعنوي الذي سيتعرض له وقتها...وأنه مستعد للمواجهة القانونية إذا لزم الأمر لأن دينه وربه أهم من أي شيء يملكه...تسارعت وتيرة تغيير ملامح رئيسه من الإستماع للنظر بدهشه ثم لتطاير شرارة الغضب من عينيه إلى أن وصلت في النهاية لأقصى درجات الغضب بصياحه في وجهه بأنه كافر مشرك نجس لا مكان له وسط المؤمنين المسلمين الأبرار...وأنه سيتخذ ضده كل الإجراءات اللازمه لترحيله حتى لو كرّس بقية حياته لهذا الغرض فقط...أشاح بوجهه بعيداً عن ثورة غضب رئيسه ثم توجه لغرفته عاقداً العزم على إتخاذ الإجراءات القانونية اللازمه مستعيناً بسفارته وزملائه

رفضت السفارة مساعدته لعلمها بتطرف المصريين ضد كل ماهو غير مسلم...ورفض زملائه التخلي عن أرزاقهم ليساعدوه في الحصول على حقه في الصلاة...ولم يقبل محامِ واحد قضيته...وأقنعه الجميع بان القضاء والقانون لن يقفوا بصفه لأن الدستور المصري ينص على أن الدين الإسلامي هو الدين الرسمي وأنه لا مكان لدين خارج إطار الإسلام والمسيحية واليهودية....وحتى هؤلاء لا يحصلون على حقوقهم وتُمارس ضدهم صنوف من التمييز والإضطهاد...وعلم أيضاً أن اليهود غادروا مصر منذ زمن بعيد وأصبح وجودهم غير مرغوب فيه إلى أن إندثروا الآن وقد يجيء الدور قريباً على المسيحيين أيضاً...طاردته عيون زملائه المصريين المليئة بالكراهية والبغض لدرجة أنهم لم يقبلوا أن يأكل بجانبهم ولا أن يضموه في جلساتهم...يراهم يقيمون الصلاة خمس مرات في اليوم بأصوات مرتفعة وإغلاق للطرق ولا يستطيع أن يمارس حقه الطبيعي في أن يقيم صلاته مثلهم مع الفارق الكبير بين كلاً من الصلاتين في مقدار الضوضاء والزحام...جاء شهر يصومون فيه بالكامل من شروق الشمس حتى مغربها...وعندما كان يتناول إفطاره صباحاً فوجىء بمن يلقي بطعامه أرضاً ويصرخ في وجهه...فيما بعد علم أن يفرضون ألا يأكل غير المسلمين امامهم مراعاة لمشاعرهم أثناء صيامهم وكأن تناول الطعام أمامهم سيفسد صيامهم الذي هو بالأصل طقس روحاني يسمو بالروح ويهذب النفس ويخص صاحبه فقط...تحولت الدقائق لجحيم والساعات لتعذيب والأيام لكوابيس...شعر بغضب كريشنا عليه لأنه لم يواجه من يمنعونه من أداء الصلاة فقرر ترك عمله ومغادرة مصر في أسرع وقت ممكن مفضلاً العودة للفقر وكسب رضا كريشنا عن الحياة في بلد لا يعرف للتسامح سبيل ولا يعامل الإنسان بعمله وشخصه بعيداً عن معتقده ودينه