الاثنين، ٢ يونيو ٢٠٠٨

العلمانية الألمانية والعلمانية المصرية, هذا هو الفرق








في نقاش مع صديق مقيم بألمانيا حول إشكالية الإختلاف بين مفهوم العلمانية في بلاد العرب عنه في بلاد الغرب ذكر لي محدثي واقعه حقيقية حدثت في جامعة كول الألمانية, مفادها أن مجموعة من الطلبه المسلمون يدرسون في تلك الجامعة تقدموا بطلب رسمي للإدارة بمنحهم قطعة أرض تكفيهم ليقيموا الصلاة عليها حيث أنهم يقضون جلّ وقتهم في الجامعة وبالتالي لا يستطيعون أداء فروض العبادة كما تقتضي تعاليم الدين الإسلامي, فقامت إدارة الجامعة مشكورة ومتفهمه بمنحهم قطعة الأرض دون أي إعتراضات تُذكر, ما حدث بعدها أن الطلبه الألمان ذوي التوجهات المسيحية المتطرفة إعترضوا على قرار إلإدارة بمنحها قطعة الأرض للطلبه المسلمون لأداء الصلاة دون أن يكون لهم نفس الحق في قطعة أرض يقيمون عليها صلاة الأحد, فماذا كان قرار الجامعة لحل تلك المعضلة؟ قررت الإدارة رفض طلب الطلبه المسيحيون لأن توفير قطعة أرض لصلاة يوم واحد ليست بأهمية توفير قطعة لصلاة يومية وخمس مرات على مدار اليوم !

تلك هي العلمانية بحق كما ننشدها, وليست علمانية منع التدين أو الإعتداء على الحرية الشخصية كما يزعم البعض, العلمانية في مثالنا السابق دليل واضح على أن الأزمة ليست في الدين أو الإيمان, فهاهي الدولة ذات الأغلبية المسيحية تقبل طلب ديني للمسلمين وترفض نفس الطلب للمسيحيين, والأفضلية هنا ليست لدين على حساب الآخر, بل لحساب العقل والمنطق فقط لا غير, دون شبهة تعصب أو إنحياز أو نصرة فريق ننتمي إليه على فريق آخر نعتبره منافس لنا, العلمانية هنا تعني العدالة والحرية والحيادية, حيادية الدولة تجاه مواطنيها أياً كانت إنتمائتهم, وليس مطلوباً من الدولة على الإطلاق أن تتخذ ديناً رسمياً لها فقط لأن أغلبية السكان يدينون بهذا الدين, بل مطلوب منها ألا تستخدم الدين كوسيلة لتحقيق مكاسب سياسية أو إجتماعية أو حتى إقتصادية على حساب جزء كبير من شعبها لا يدين به, ولا أعلم حقاً كيف تصف دولة نفسها بالعلمانية في حين أن دستورها ينص في مادته الثانية على أن الشريعة الدينية المصدر الرئيسي للتشريع ! خطوة مثل تلك إما أنها تعبر عن عدم فهم على الإطلاق لأصول العلمانية أو أنها تقرّب للغرب وعامة الشعب المتدين في وقت واحد (ضرب عصفورين بحجر), والعجيب في الأمر أن كل من يرفض العلمانية يرفضها فقط لأن التشريعات الدينية لن تُنفذ كما وردت في النص, في حين يتغاضى الرافضون عن أنها بالفعل لا تطبق في ظل ورود المادة الدستورية السابق ذكرها, ولا تستخدم التشريعات الدينية إلا في حالات الأحوال الشخصية أو في بعض الأحكام القضائية بصورة عشوائية حسب القضية نفسها, فالمادة الثانية هنا تُستخدم بشكل إنتقائي بحت, لا يستفيد منها العلمانيون ولا المتدينون, وبالتالي تبقى الأزمه قائمه, دولة علمانية التوجه دينية الدستور, علمانية من الخارج طائفية من الداخل, حيث أنها تنحاز لفئة دينية على حساب الأخرى, وهي الأزمه التي لابد أن نجد لها حل قريباً في ظل المد الديني المتطرف القادم من الشرق الصحراوي النفطي, وهو بالطبع نتيجته معروفه في حال إنتصاره, ستتحول جمهورية مصر العربية إلى جمهورية مصرستان الإسلامية كما هو الحال الآن في غزستان والعراقستان وكل ال (إستانات) التي تكونت بفعل الحركات الدينية السياسية .....

المسألة لم تعد تقتصر على مدى قبولنا أو رفضنا للعلمانية كنظام للحكم, فقد تجاوزت معظم دول العالم بكل تصنيفاتها من الأول للثالث تلك الإشكالية وإستطاعت النهوض والنمو فقط عندما تخلت عن الأفكار الجامدة التي لا تقبل سوى الحقيقة المطلقة كمعيار للحكم, المسألة تنحصر في كيفية تنفيذ العلمانية كنظام للحكم وللحياة أيضاً, فمن المعايير الأساسية للعلمانية التي نفتقدها في مجتمعاتنا أن الإختلاف في الرأي لا يعني على الإطلاق أن كلاً منا يعادي الآخر أو يحط من شأنه, وأن كوني أملك دين أو أيدولوجية أو معتقد غير الذي تملكه لا يعني أن أحدنا أفضل من الآخر مهما كانت تلك المبادىء, كذلك تعطى العلمانية قيمة أسمى للإنسان على حساب أي قيم أخرى, وتعتبر أن الإنسانية هي القيمة التي تجتمع عليها البشرية مهما إختلفت الأديان أو الإيدولوجيات السياسية أو الإنتماءات العرقية أو الوطنية, ومن أهم أسس العلمانية أيضاً ما يُعرف بالحرية المسئولة, وهي القدرة على أن تستخدم حريتك بكامل إمكانياتها على شرط ألا تؤذي غيرك بها, ونجد في مجتمعاتنا العربية أن تلك القيمة مفتقدة تماماً وأبداً للفهم المغلوط بشأنها, حيث نعتبرها فوضى وإنحراف وخروج عن العادات والتقاليد حتى لو كانت تلك الحرية شخصية بحته ولا تضر أحد, في حين أن العالم العلماني في الخارج تشبع بها لدرجة أن مستوى الأخلاق والمحافظه على الذوق العام هناك أفضل مئات المرات من دولنا المحافظه التقليدية المتدينه !

الفرق بين ما يحدث في جامعاتنا وما حدث في جامعة كول أنه لو حدثت تلك الواقعة في جامعة القاهرة مثلاً ولكن بشكل معكوس (المسلمين من طالبوا بقطعة الأرض ورفضت إدارة الجامعة) لقامت المظاهرات في الشوارع مطالبه بإنقاذ الإسلام ممن يهاجموه, وآمره بإرجاع الحقوق لأصحابها الأصليين, ولقامت جماعات صكوك الغفران الدينية بحشد الحشود التي لا تعى ما تقول وإلقائها في آتون المواجهه حتى تسنح لها مزيد من الفرص لتتقدم خطوة أخرى نحو إحكام السيطرة على العقول أكثر ثم السيطرة على مقاليد الحكم فيما بعد وبعث الخلافة الإسلامية من جديد, والأعجب أن موقف الحكومة وقتها سيكون المزايدة على العواطف والأحاسيس الدينية لدى الجماهير الغاضبة لتكسب أرضاّ جديدة في مواجهة جماعة المحتكرين للإسلام, وسيكون موقف الحكومة المتوقع هو معاقبة من أصدر القرار وإقصائه من منصبه (هذا لو تجرأ وقام بإتخاذ مثل هذا القرار الجنوني بكل المعايير), هذا هو الفرق بيننا وبينهم, وهو فرق لو تعلمون رهيب ....