
ومن عجائب الامور فى مصرنا المحروسة ان تجد ارقى درجات التناقض وانفصام الشخصية فى ايام شهر رمضان المبارك ! يكاد العقل يذهب واللب يرتبك من المشاهدات العبثية التى تتجلى فى اوقات الصيام وما بعد الافطار, اينما نظرت حولك تجد اناسا لا يفارق المصحف الشريف ايديهم, يتكلمون عن مكارم اخلاق الصائم وفضل صوم الستة البيض ورائحة فم الصائم التى يحبها الله, يحاضرون بعضهم البعض فى اصول الدين ويتبادلون الخبرات القصصية والسمعية والفضائية فى احاديثهم دون كلل او ملل, تشعر انك فى المدينة الفاضلة من فرط التقوى والورع الذى يتمتع به اهل المحروسة الصائمون, تمتلىء المساجد بالمصلين, يتردد القراّن على مسامعك فى كل شبر, ولكن على الناحية الاخرى تدور فى مخيلة المشاهد لتلك المظاهر الايجابية عدة اسئلة, اولها واهمها, لماذا يتكلم اهل مصر عن الاخلاق والدين فقط دون ان يطبقوا ايا منهما ؟ لماذا تزداد الدعوى لمكارم الاخلاق فى شهر رمضان الكريم فقط ؟ لماذا تزداد حدة النفاق الدينى (الزائدة عن الحد بالاساس) خلال شهر الصوم ؟
تحضرنى هنا مقولة الامام محمد عبده عندما عاد من اوروبا بعد فترة اقامة ودراسة وذهل مما راّه هناك من نظام وفضائل جعلته يقول (رأيت اسلام بلا مسلمين, وهنا مسلمين بلا اسلام), مقولة مختصرة فيها حل لكثير من المشاكل التى يواجهها المجتمع المصرى, قديما وحديثا, فنحن نشكل ما يسمى باللهجه الشامية (جعجعة بلا طحن), نتكلم ونتصايح ونحاضر بعضنا البعض دون ان يطبق المتكلم مواعظه, ودون ان يتلقى المستمع تلك المواعظ بوعى وحس مسئول, واذا كان من حق المستمع الا يطبق كل ما يقال له بحكم ان الانسان بطبعه لا يستسيغ ان ينصحه او يعظه احد, فمن الاولى بالواعظ ان ينتبه لتصرفاته التى تسيء بالاساس لوعظه وما يستخدمه فى الوعظ, وكثيرا ما رأيت اثناء قيادتى السيارة فى شوارع مصر اناس بلحى وعلامة الصلاة تزين جباههم ومع ذلك لا يتورعون عن الشتم والسب واستخدام الالفاظ النابية اذا اخطأوا او اخطأت, كذلك نجد اصحاب الفكر السلفى يقومون بافعال فى تجارتهم تجعلهم دوما محل شك من المتعاملين معهم لدرجة ان شهرتهم فى الغش التجارى اصبحت ملازمة لمظهرهم السلفى, والادهى والامر ان تحدث مثل تلك الافعال فى شهر رمضان, وهو ما يرجعنا لتساؤلنا الاساسى, اين الاخلاق والدين مما يفعلون ؟
الغريب فى الامر اننا نجد تلك الدعاوى تزداد بشكل ملفت فى شهر رمضان, مع العلم بان الصائم مطلوب منه التحلى باكبر قدر ممكن من ضبط الاخلاق والالتزام بالدين, فهو لا يحتاج لنصح او ارشاد من الاساس, ولكنها الرغبة المحمومة للتيار السلفى فى السيطرة على عقول المصريين باستغلال حبهم الجارف لشهر رمضان, لهذا تكثر حركة الدعوة وتنشط بقدر المستطاع خلال ثلاثون يوما تكون بمثابة الماراثون لضم اكبر عدد ممكن من الشباب الصائم لحظيرة الفكر الوهابى, والاستيلاء على عقولهم وتحريكهم كيفما يشاوؤن فيما بعد, وبالطبع التمويل النفطى موجود وجاهز وبلا حدود, فهل يدخل استغلال الشهر الكريم فى غسيل الادمغة ضمن مكارم الاخلاق وفضائل الدين ؟
اما الطامة الكبرى التى نلاحظها خلال تلك الايام المباركة, فهى تغول النفاق الدينى فى كل مظهر من مظاهر الحياة حولنا, فنرى من لا يصلى فى المعتاد يواظب على صلاة الجماعة صلاة بصلاة, ونجد الفتيات الغير محجبات وقد ارتدين الحجاب وبجميع اشكاله, ونجد من لا يعرف شكل القراّن طوال العام وقد اصبح لا يفارقه فى صحوة ومنامه, ونفاجىء بمن يعيث فى الارض فسادا وقد اصبح من اولياء الله الصالحين, كل تلك المظاهر لا شك فى ايجابيتها, فقط اذا استمرت, ولكن ان تصبح مجرد اقنعة زائفة تذوب وتزوى وتذهب بلا رجعة مع اول ايام عيد الفطر, فهذا هو النفاق بعينه, واذا خُيرت بين ان تنتشر تلك المظاهر فى رمضان فقط او يستمر كل امرء على حاله لاخترت الخيار الثانى منعا للنفاق الدينى وخداع النفس والآخرين, وحقا لا اعرف كيف يجد الانسان الجرأة ليغير من مبادئه مرتين خلال شهر, مره فى اوله حين يلتزم بما لم يكن ملتزما به من قبل, ومره اخرى فى نهايته حين يتخلى عن الالتزام الذى التزم به فى بدايته ليعود لسابق عهده, فمن جهة يريد الفرد ان يظهر بمظهر المتدين خلال شهر الصوم حتى لا يضيع عليه اجر الصيام, او حتى لا يقال عنه انه غير متدين حتى فى شهر رمضان, ومن ناحية اخرى يريد وبشتى الطرق ان يزايد على من حوله, فعندما يجد زميله فى العمل يقرأ القراّن يقلده ولكن بمزايدة رفع صوته, وحينما يجد جيرانه يصلون العشاء والتروايح بالمسجد المجاور له يقوم بنفس الفعل حتى لا يقال عنه انه اقل منهم تدينا, وتلك المظاهر تجعل التدين فى النهاية مجرد وسيلة وليس غاية, الهدف منها التلميع الشخصى والنفعية, ومع ذلك نجد من بعض الاصوات السلفية من يعلّى من قيمة المظهر على الجوهر, ويشدد على التمايز سواء بالزى او الفعل او القول, ويجرؤ على الاحتفاء باللحية والمسواك بغض النظر عن الشرف والاخلاق, فهل يصبح شهر رمضان مجرد وسيلة اخرى من وسائل النفاق الدينى ؟ هذا ما نراه, وما لا نتمناه.