الاثنين، ٢٤ أغسطس ٢٠٠٩

أغبى نظام على وجه الأرض


لم يحظى نظام حكم في تاريخ مصر على هذا القدر من الكراهية الشعبية والدولية مثلما حظى نظام حكم مبارك, وبالطبع لم تأت تلك الكراهية من فراغ, إنما هي نتاج طبيعي لأكثر من ربع قرن إستخدم فيها النظام أدوات غاية في السوء والغباء و(الغشومية) ليصل لأهداف يعلم جيداً أنها سبيله للسيطرة والتحكم والبقاء على رأس السلطة لأطول فترة ممكنة ومع أقل قدر من الخسائر, ومن بينها بالطبع خسارته للشعبية والتأييد, وهو هنا لا يعتبر شعبيتة المحك لإستمراره في الحكم, وإنما تنحصر أُسس إستمراره على سياستين في غاية الأهمية (العصا والجزرة) و(الحديد والنار), وهي السياسات التي أمّنت له أكبر قدر من التحكم في مصائر عباد الله والسيطرة على ارزاقهم والضغط المستمر على أعصابهم عن طريق جعل همهم الأساسي البحث عن لقمة العيش وتربية الأطفال والإنشغال في السطحيات والمعارك الصغيرة التي لا تسمن ولا تغني عن جوع.

وقد نتعجب إذا علمنا أن أكثر أدوات سيطرة النظام على البلاد هي أدوات في الأصل تستخدم من قِبل المستعمرين للحد من الغضب الشعبي ولإذلاله وكسر شوكته وبالطبع لتغييبه ونشر الفُرقة بين كافة طوائفة, وهي السياسات المعروفة منذ فجر تاريخ الإستعمار حتى يومنا هذا, وتجلّت ملامح تلك السياسات واضحة صريحة خلال سبعون عاماً من الإستعمار الإنجليزي لمصر أُستخدمت فيها بقسوة وضراوة وإفراط يشهد عليه تاريخ تلك الحقبة, ولكن الكارثة الحقيقية أن ما نعاصرة الآن فاق الإستعمار الإنجليزي في كل شيء, حتى لتمنى البعض العودة للملكية والإستعمار لأنهم كانوا أرأف حالاً بنا مما يفعله أبناء جلدتنا من تنكيل وإذلال وتحقير وتغييب وإفقار وإقطاع أيضاً.

ونحن الآن على وشك عرض بعض النقاط التي تعتبر أغبى الطرق التي يحكم بها النظام شعبنا المقهور دون إعمال للعقل او حُسن التدبير أو رجاحة الفكر, ولو حاول النظام تحسين بعض تلك النقاط لتغير حال مصر كثيراً عما آلت إليه.

1 – إستخدام القوة الأمنية بإفراط لا مبرر له :

منتصف الثمانينات, عام 1986 على وجه التحديد, إنطلقت جموع قوات الأمن المركزي المقهورة المعذبة المنكل بها إلى شوارع القاهرة, ثائرة غاضبة, تعصف بكل ما تقابله دون تمييز, صيحاتها تهز جدران فنادق الخمس نجوم بشارع الهرم, تحطم واجهات الفنادق, تحرق السيارات وتقطع الطريق, يظهر البؤس والشقاء على ملامحهم السمراء التي أرهقها سوء التغذية والمعاملة القاسية, فيما بعد قرأنا في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة مآساتهم مع وزارة الداخلية والمعاناة والويلات التي لاقوها داخل معسكراتها, لم يصدق الكثيرين آذانهم وكذّبوا أعينهم عندما تجلّت لهم الحقيقة كاملة دون رتوش, الداخلية تعذّب حتى من يخدمها, إنصلح الحال بعض الوقت, ثم عادت ريما لسيرتها المشئومة القديمة, وأصبح ولاء عسكري الأمن المركزي للضابط أقوى من ولائه لأبيه, تخلى الشاب المصري البسيط عن كل عالمه مقابل سريره المعدني الصدىء وضابطه الذي أصبح بمثابة وليّ نعمته والحاكم بأمره, وهنا, هنا فقط, تحركت جموع الأمن المركزي مرة أخرى, ليس لثورة جديدة, وإنما لضرب أي ثورة, أو حتى نوبة غضب قادمة, ضربها في مهدها حتى يضيع كل أمل, وتهدأ كل روح تطالب بحقها في مجتمع أفضل ومستوى معيشة يليق بالإنسان, تحركت جموع الأمن المركزي لتجهض كل صوت ينادي بالحرية والمساواة والعدل, أفرط الضباط في إستخدام غير مبرر للقوة بحيث لم يفرقون بين شاب وشيخ وإمرأة, المساواة الوحيدة التي إعترف بها نظام الحكم هي المساواة في العنف والإهانة لكل أفراد الشعب الغاضبين, والعدل هو توزيع العصيّ على الشعب بالتساوي دون واسطة أو محسوبية.

2 – تقييد حركة الأحزاب الشرعية وإجهاضها :

تفائلت جموع المثقفين والسياسيين عندما وافقت لجنة الأحزاب برئاسة صفوت الشريف (الذي هو أمين أحد الأحزاب المنافسة أيضاً بالمصادفة البحتة) على قيام حزب الغد برئاسة البرلماني القدير الكفء أيمن نور, ولم يصدق الشباب المصري الليبرالي ما حدث, فتوجهوا مندهشين لمقر الحزب بميدان طلعت حرب لينضموا أفواجاً وراء أفواج, وهو ما حدث بالتفصيل في باقي مقار الحزب على مستوى الجمهورية, لم يحرض حزب الغد الشباب على العنف, ولم يطلب منهم عروضاً عسكرية كلاً في جامعته, ولم يجعلهم مطية بغية الوصول لاهدافه الغير معلنة, فقط رفع من مستوى وعيهم السياسي والإجتماعي وحملهم مسئولية توعية الجماهير بالفكر الليبرالي الديموقراطي, مع توالي النجاحات وإنتشار الأعضاء في كل أنحاء الجمهورية شعر رئيس الحزب أنه يمكنه خوض معركة إنتخابية أمام الرئيس في أول إنتخابات رئاسية متعددة المرشحين, فماذا كانت النتيجة ؟ سُجن رئيس الحزب بتهمة أقل ما يقال عنها أنها سياسية, إنقسم الحزب بين رئيس مؤيد للرئيس السابق ورئيس مؤيد للحزب الوطني, توالت إستقالات الأعضاء, تفرق شملهم, أصاب الإنهيار كافة أعمدته, ولم يتبقى من الحزب سوى الإسم ومقر متنازع عليه, وما زاد الطبن بله تدخل الحكومه في إختيار رئيس جديد للحزب موالي لها ! قس ما حدث على بقية الأحزاب, وآخرها حزب الجبهة الديموقراطية الذي لم يتم بعد عامه الأول, هاهو يُخترق وتبدأ الإستقالات المعتادة, بل ويُحاصر من جميع الجهات كالمعتاد, فتُمزق لافتاته بفعل مجهول, وتتعطل مؤتمراته لإجراءات روتينية لا تحدث للحزب الحاكم, ومن جديد ينهار حزب ليبرالي ذو رموز محبوبه فقط لأنه يساعد على رفع مستوى الوعي السياسي والثقافي لشعب يفتقد قيادة واعية تعينه على مواجهة الجهل والتخلف والثقافة الديكتاتورية الرجعية, طبق ما سبق على حزب الجبهه الديموقراطية الوليد, وستجد أنها منهجية ثابته لا يحيد عنها النظام ولا أمل في تغييرها أو التخلي عنها.

3 – العناد في مواجهة مطالب الشعب :

كم من مرات طالبت الجماهير بحقوقها ولم يُستجاب لها ؟ إنها سياسة العناد بكل مساوئها وأخطارها مستقبلاً, إذا طالب الشعب بتحديد فترة الرئاسة قيل له أن بقاء الوضع كما هو عليه أفضل لأننا لا نريد أن نحجر على رأي الشعب, فلماذا نحدد فترة الرئاسة طالما الشعب يريد رئيسه أن يحكم ؟ وإذا نادى الشعب بتعيين نائب للرئيس قيل له ولماذا نحصر خليفة الرئيس في شخص لم يختاره الشعب ؟ كأن من عادة أنظمة الحكم الديكتاتورية أن تترك الإختيار لشعوبها, وإذا طالب القضاة بحقوقهم زاد بطش الدولة بهم, وإذا طالب موظفي الضرائب العقارية بمساواتهم بزملائهم رد عليهم الوزير بمقولة تدل على عقلية حكومته ورئيسه (لا أسمح لأحد بلي ذراعي), وكأن المطالبه بمستوى معيشة آدمي لي ذراع ! إذا أحب الشعب شخصية حكومية, وهي حالة شديدة الندرة, يتم البطش بها فوراً, ولنا في الوزير المحترم أحمد رشدي مثال, ولنا في عبد السلام محجوب الذي تولى وزارة هامشية مثال آخر, ولنا مثال صارخ يتمثل في الوزير المحبوب عمرو موسى الذي وجد نفسه فجأة في مقبرة دبلوماسية لا أمل في إحيائها تسمى جامعة الدول العربية, صورة أخرى من صور عناد النظام الحاكم تتمثل في مقولة الرئيس المشهورة "لن أترك الحكم طالما في قلبي نبض", وهو رد واضح على المتشككين في مدى صلاحية الرئيس لممارسة أعماله الرئاسية مع تقدمه في السن, ولم يملك الرئيس أمام الإحتجاجات المتتالية على منح إبنه صلاحيات لا يستحقها إلا أن يوفر له مناخ شديد المرونة يستمر من خلاله في الصعود أكثر وسحقاً للمعترضين, وتستمر سياسة العناد بضراوة عندما يصر الرئيس على الإبقاء على رموز تحظى بكراهية فوق العادة من قِبل الشعب, نذكر منها يوسف والي وصفوت الشريف وزكريا عزمي وفتحي سرور وكمال الشاذلي وحبيب العادلي, والقائمة تطول, والأكثر مدعاة لليأس والإحباط أن تستمر سياسات النظام الحاكم لأكثر من ربع قرن بنفس الرتابة والملل والروتين, دون تغيير أو تصحيح للمسار أو الإستعانة بخبرات عقول تدور خارج فلك الحزب الحاكم, وكلما إزدادت المطالب بالتغيير كلما تجمد الموقف أكثر.

4 - تجاهل النخبة الثقافية والسياسية من خارج الحزب الحاكم :

في بداية عهد الرئيس حسني مبارك قام بخطوة إعتبرها المثقفين والسياسيين بداية موفقة ومبشرة عندما أفرج عن سجناء 5 سبتمبر 1981 وهم في ذلك الوقت صفوة المجتمع من الساسة والمثقفين والأدباء, ثم أعقب تلك الخطوة الجريئة بنموذج مشرف من الديموقراطية وإحترام الرأي الآخر عندما طلب تنظيم مؤتمر يحضره كافة أطياف المجتمع من جميع التخصصات لبحث كيفية تنظيم مستقبل مصر من جميع النواحي مع تعهد بالإلتزام الكامل بما سيقره المؤتمر من توصيات وخطط وبرامج عمل, بالفعل خطوة رائعة تحسب لسيادة الرئيس في بداية عهده, ولم يكن أكثر المتفائلين يتوقعها وقتها, ولكنها حدثت بالفعل وبدا أن المستقبل يحمل ماهو أكثر بما يدعو للتفاؤل وبداية عهد جديد يستمع فيه الفرعون المصري لمعارضيه ويهتم بآرائهم حتى لو كانت لا تتفق مع آراء بطانته ورجال بلاطه وكهنته, ولكن, ماذا حدث خلال 27 سنة بعد البداية الديموقراطية ؟

إنتهى الحال بنا لحزب حاكم ينبذ كل من يدور خارج فلكه ويهاجمه ويتهمه تاره بالعماله وتاره أخرى بالغباء أو الجهل وتاره ثالثه بالسعي للشهرة على حساب تمثيل دور المعارضه ! وخسر المصريون نتيجة لتلك السياسة الإقصائية المتعنته الكثير من العقول العلمية والإجتماعية والسياسية التي لو أعطاها النظام حقها في الظهور ومشاركته الرأي لتغير وجه مصر الآن بصورة أقل ما يقال عنها أنها مؤثرة, فرأينا كيف إستبعد النظام كل مقترحات عالمنا النوبلى د.أحمد زويل بخصوص جامعة علمية على مستوى راقي تحقق المعادلة الصعبه من تعليم متميز وبسيط التكلفة على الشعب وذو فائدة عظيمة مستقبلاً في مجال البحث العلمي, وإذ فجأة نرى قطر وقد خطفت المشروع بدكتور زويل نفسه لتستفيد من خبرة طردناها بأيدينا, ورأينا كذلك كيف تجاهل الحزب الوطني مقترحات الدكتور أسامه الغزالي حرب فترة ثلاث سنوات كامله بح فيها صوت سياسي محنك في المطالبة بمنظومه سياسية وإقتصادية متوازنة وحقيقية تسعى للتقدم لا للسكون والرجعية, وبعد مماطله وإقصاء وعناد إستقال الرجل المحترم من أعلى لجنة في الجمهورية لينشأ حزبه (الجبهه الديموقراطية) علّه يستطيع من خلاله تحقيق ما فشل في تحقيقه من داخل الحزب الحاكم, ويتواصل مسلسل نزيف الخبرات مع إقصاء متعمد للدكتور فاروق الباز ومشروعه ممر التنمية المصري الذي يعد من أضخم المشاريع التي لو نُفذت لتغيرت طبيعة الحياة في مصر للأبد, والمشروع ببساطة عبارة عن إقامة ممر عرضي للتنمية، يتوازى مع وادي النيل ويرتبط معه بأفرع، وهو ما يشكل ما يسمى بسلم التنمية, ورغم روعة الفكرة وضخامتها وقدرتها على تغيير الواقع الذي لا يبشر بأي خير مستقبلاً إلا أنه تم تجاهل المشروع تماماً ووضعه على رف حكومي مترب تحفه خيوط العنكبوت إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً !

سياسة تجاهل النخبة السابحه خارج الفلك الحزبي ظاهرة قديمة قدم الحياة السياسية المصرية ذاتها, وهي داء أساسه أن لا شيء عبقري ورائع ومبتكر إلا الفرعون وحاشيته, ولا يملك نار المعرفة بشر سوى من يعتلي الكرسي المصري, ولن يعترف البلاط الرئاسي بعبقري إلا لو أعلن ولائه التام كلاماً وفعلاً للفرعون الأعظم.

5 – تأجيج الفتنة الطائفية (سياسة فرق تسد) :

لم تمر فترة حرجة في العلاقات بين عنصري الشعب المصري كمثل تلك الفترة السوداء في تاريخ مصر, كلا الطرفين متحفزين, وكلاهما يسعى لفرض سطوته على الآخر بشتى الطرق, حتى لو من خلال إنتصارات زائفة لا تسمن ولا تغني عن جوع, ولكنها من الناحية الأخرى تسير بالنسيج المصري المتجانس دوماً نحو التمزق والتفسخ, وعندما نتساءل عن السبب الرئيسي الذي قاد قاطرة الوحدة الوطنية نحو هاوية الفتنة فلن تجد سوى سياسة عليا تتحكم في قنوات الإتصال بين الطرفين وبيدها فقط أن تصل بينهما أو تضع سدوداً تزيد من الفُرقة وتزرع الحقد والكراهية في العلاقات بينهما, وليس ببعيد ما حدث في قضية وفاء قسطنطين عندما إنحاز جهاز أمنى رفيع المستوى إلى الجانب المسلم على حساب الجانب المسيحي مما أدى لزيادة الشعور بالغضب من قِبل المسيحيين نحو المسلمين, كذلك ما حدث من تضييق ومطاردة وتشهير بالمواطن محمد حجازي عندما أعلن إعتناقة المسيحية عن إقتناع, وتستمر سياسة الإنحياز لطرف على حساب الآخر في مواقف شتى, أهمها على الإطلاق الدعم غير المشروط من الدوله للأزهر وعلمائه رغم ما يطلقوه من تصريحات غير مسئولة في كثير من الأحيان تكفّر المسيحيين أو تتهمهم بالشرك أو تدعو لقتلهم كما حدث في كتاب شخصية تحسب على الأزهر, وإذا نظرنا للجانب الآخر سنجد أن المسيحيين من جانبهم يتخذون من السلبية والتقوقع على الذات وسيلة لتجنب ما يحدث حولهم من تغيرات يعلمون جيداً أن نتيجتها النهائية لا تبشر بالخير على الإطلاق, ولو واجه كلا الطرفين الآخر بما يعتمل في الصدور ويشغل العقول لتوارت خجلاً الفتنة الطائفية التي تلوح بوادرها في الأفق, ولكن مع غياب كامل من الدولة لحل الأزمات المتتالية, وإنحياز واضح ممثل في حوادث تغيير الديانة والكيل بمكيالين في مواجهتها تزداد الأزمات عمقاً وتتضح أهداف الدولة في شغل الرأي العام المصري بمحاولات مستمرة لإطفاء لهيب التفنة من آن لآخر بدلاً من مواجهة مشكلات وطنية سببها الأول نظام الحكم وحكوماته المتتالية, وهي سياسة قديمة قدم الزمان نفسه, تجعل من التفرقة سلاح للسيطرة, ومن إذكاء نار الحقد والكره وسيلة لإحكام الشعوب بين مطرقة الحكم بالحديد والنار وسندان المشاكل الداخلية التي تقتل أي محاولة للإصلاح, ومن الضروري أن يفهم النظام الحاكم أن مصلحة الأمة فوق أي مصلحة شخصية لحزب أو مجموعة, وأنه عندما تندلع نيران الفتنة سيكون النظام أول ضحاياها, وستندلع الشرارة بيد النظام نفسه الذي ستحترق يداه منها فيما بعد ........