الخميس، ٢٠ سبتمبر ٢٠٠٧

هل اصبح شهر رمضان رمز للنفاق الدينى والمزايدة ؟


ومن عجائب الامور فى مصرنا المحروسة ان تجد ارقى درجات التناقض وانفصام الشخصية فى ايام شهر رمضان المبارك ! يكاد العقل يذهب واللب يرتبك من المشاهدات العبثية التى تتجلى فى اوقات الصيام وما بعد الافطار, اينما نظرت حولك تجد اناسا لا يفارق المصحف الشريف ايديهم, يتكلمون عن مكارم اخلاق الصائم وفضل صوم الستة البيض ورائحة فم الصائم التى يحبها الله, يحاضرون بعضهم البعض فى اصول الدين ويتبادلون الخبرات القصصية والسمعية والفضائية فى احاديثهم دون كلل او ملل, تشعر انك فى المدينة الفاضلة من فرط التقوى والورع الذى يتمتع به اهل المحروسة الصائمون, تمتلىء المساجد بالمصلين, يتردد القراّن على مسامعك فى كل شبر, ولكن على الناحية الاخرى تدور فى مخيلة المشاهد لتلك المظاهر الايجابية عدة اسئلة, اولها واهمها, لماذا يتكلم اهل مصر عن الاخلاق والدين فقط دون ان يطبقوا ايا منهما ؟ لماذا تزداد الدعوى لمكارم الاخلاق فى شهر رمضان الكريم فقط ؟ لماذا تزداد حدة النفاق الدينى (الزائدة عن الحد بالاساس) خلال شهر الصوم ؟

تحضرنى هنا مقولة الامام محمد عبده عندما عاد من اوروبا بعد فترة اقامة ودراسة وذهل مما راّه هناك من نظام وفضائل جعلته يقول (رأيت اسلام بلا مسلمين, وهنا مسلمين بلا اسلام), مقولة مختصرة فيها حل لكثير من المشاكل التى يواجهها المجتمع المصرى, قديما وحديثا, فنحن نشكل ما يسمى باللهجه الشامية (جعجعة بلا طحن), نتكلم ونتصايح ونحاضر بعضنا البعض دون ان يطبق المتكلم مواعظه, ودون ان يتلقى المستمع تلك المواعظ بوعى وحس مسئول, واذا كان من حق المستمع الا يطبق كل ما يقال له بحكم ان الانسان بطبعه لا يستسيغ ان ينصحه او يعظه احد, فمن الاولى بالواعظ ان ينتبه لتصرفاته التى تسيء بالاساس لوعظه وما يستخدمه فى الوعظ, وكثيرا ما رأيت اثناء قيادتى السيارة فى شوارع مصر اناس بلحى وعلامة الصلاة تزين جباههم ومع ذلك لا يتورعون عن الشتم والسب واستخدام الالفاظ النابية اذا اخطأوا او اخطأت, كذلك نجد اصحاب الفكر السلفى يقومون بافعال فى تجارتهم تجعلهم دوما محل شك من المتعاملين معهم لدرجة ان شهرتهم فى الغش التجارى اصبحت ملازمة لمظهرهم السلفى, والادهى والامر ان تحدث مثل تلك الافعال فى شهر رمضان, وهو ما يرجعنا لتساؤلنا الاساسى, اين الاخلاق والدين مما يفعلون ؟

الغريب فى الامر اننا نجد تلك الدعاوى تزداد بشكل ملفت فى شهر رمضان, مع العلم بان الصائم مطلوب منه التحلى باكبر قدر ممكن من ضبط الاخلاق والالتزام بالدين, فهو لا يحتاج لنصح او ارشاد من الاساس, ولكنها الرغبة المحمومة للتيار السلفى فى السيطرة على عقول المصريين باستغلال حبهم الجارف لشهر رمضان, لهذا تكثر حركة الدعوة وتنشط بقدر المستطاع خلال ثلاثون يوما تكون بمثابة الماراثون لضم اكبر عدد ممكن من الشباب الصائم لحظيرة الفكر الوهابى, والاستيلاء على عقولهم وتحريكهم كيفما يشاوؤن فيما بعد, وبالطبع التمويل النفطى موجود وجاهز وبلا حدود, فهل يدخل استغلال الشهر الكريم فى غسيل الادمغة ضمن مكارم الاخلاق وفضائل الدين ؟

اما الطامة الكبرى التى نلاحظها خلال تلك الايام المباركة, فهى تغول النفاق الدينى فى كل مظهر من مظاهر الحياة حولنا, فنرى من لا يصلى فى المعتاد يواظب على صلاة الجماعة صلاة بصلاة, ونجد الفتيات الغير محجبات وقد ارتدين الحجاب وبجميع اشكاله, ونجد من لا يعرف شكل القراّن طوال العام وقد اصبح لا يفارقه فى صحوة ومنامه, ونفاجىء بمن يعيث فى الارض فسادا وقد اصبح من اولياء الله الصالحين, كل تلك المظاهر لا شك فى ايجابيتها, فقط اذا استمرت, ولكن ان تصبح مجرد اقنعة زائفة تذوب وتزوى وتذهب بلا رجعة مع اول ايام عيد الفطر, فهذا هو النفاق بعينه, واذا خُيرت بين ان تنتشر تلك المظاهر فى رمضان فقط او يستمر كل امرء على حاله لاخترت الخيار الثانى منعا للنفاق الدينى وخداع النفس والآخرين, وحقا لا اعرف كيف يجد الانسان الجرأة ليغير من مبادئه مرتين خلال شهر, مره فى اوله حين يلتزم بما لم يكن ملتزما به من قبل, ومره اخرى فى نهايته حين يتخلى عن الالتزام الذى التزم به فى بدايته ليعود لسابق عهده, فمن جهة يريد الفرد ان يظهر بمظهر المتدين خلال شهر الصوم حتى لا يضيع عليه اجر الصيام, او حتى لا يقال عنه انه غير متدين حتى فى شهر رمضان, ومن ناحية اخرى يريد وبشتى الطرق ان يزايد على من حوله, فعندما يجد زميله فى العمل يقرأ القراّن يقلده ولكن بمزايدة رفع صوته, وحينما يجد جيرانه يصلون العشاء والتروايح بالمسجد المجاور له يقوم بنفس الفعل حتى لا يقال عنه انه اقل منهم تدينا, وتلك المظاهر تجعل التدين فى النهاية مجرد وسيلة وليس غاية, الهدف منها التلميع الشخصى والنفعية, ومع ذلك نجد من بعض الاصوات السلفية من يعلّى من قيمة المظهر على الجوهر, ويشدد على التمايز سواء بالزى او الفعل او القول, ويجرؤ على الاحتفاء باللحية والمسواك بغض النظر عن الشرف والاخلاق, فهل يصبح شهر رمضان مجرد وسيلة اخرى من وسائل النفاق الدينى ؟ هذا ما نراه, وما لا نتمناه.

الاثنين، ١٠ سبتمبر ٢٠٠٧

عقل جديد لعالم جديد – رؤية تحليلية للعقل المصرى المعاصر


عند غلقك دفتى كتاب ( عقل جديد لعالم جديد ) للكاتبين الامريكيين روبرت اورنشتاين وبول ايرليش, سينتابك احساس قوى بأنك تنظر للعالم من حولك بطريقة جديدة لم تعهدها من قبل, تنظر لادق التفاصيل من زاوية ستعجب انك لم تنتبه لوجودها فى عالمك الصغير, وحياتك القصيرة نسبيا, يرصد الكاتبين بعض الملحوظات بذكاء بالغ وبأسلوب غاية فى البساطة وبروح ثورية تقلب عالمك رأسا على عقب فى سلاسة ونعومة, وفى خضم اندماجك فى ثنايا ما يعرضه الكاتبين من تحليلات ودراسات وتجارب, تفاجأ بصدمات متلاحقة تفيق منها على جرس انذار بالغ الخطورة ينبهك لضرورة تغيير نظرتك للواقع من حولك ومواكبة تطور الحضارة الانسانية بكل مستجداتها قبل فوات الآوان ....

ورغم ان الكتاب يتناول عدة موضوعات بالغة الاهمية فى تطوير وعى الانسان وتنبيهه للاخطار المحدقة المحيطة به الا انه لفت نظرى عدة نقاط تتعلق بنظرتنا لحياتنا اليومية بشكل اعمق واعم من تلك النظرة التى اعتدناها لدرجة الادمان واللامبالاة, وهى تتلخص فى الآتى :

1 – "هنا نقطتان توضحان طبيعة العقل اللامتوافق, الاولى ان ذاكرتنا ليست دقيقة على الاطلاق, وان هناك تحيزا فى الذاكرة يبسّط, قبل كل شىء, ما نتذكره, اما الثانية فهى ان الامور البالغة الخطورة تتراجع بسهولة الى خلفية ذاكرتنا لتحلّ محلها اهتمامات ثانوية عابرة."

كما نرى من الاقتباس السابق ان الكاتب يركّز على نظرة الانسان لما يجرى حوله بطريقة لا تتوافق على الاطلاق مع درجة خطورة الحدث, وهو هنا يشير الى ان الانسان المعاصر يرى فقط الامور البسيطة اليومية التى قد لا تشكل خطرا عليه فى حين يتغاضى عقله عن الاحداث الجسام التى قد تؤثر عليه بشكل مباشر, وهنا نتذكر معا كيف يجذب انتباهنا حدث مثل القبض على موظف كبير مرتشى او الايقاع بعصابة لسرقة كابلات الكهرباء ومن الممكن ان يتحول حدث مثل هذا الى قضية راى عام تشغل بال المجتمع لفترة ليست بالقليلة, فى حين ان سرقة مليارات البنوك والهرب بها او الاستيلاء على اموال التامينات والمعاشات قد لا يجذب انظارنا رغم خطورته الا لماما فى الصحف عبر اخبار اصبحت معتادة لدرجة عدم اثارة اى شعور اتجاهها, وهو ما يقودنا بالضرورة لاهتمام الاعلام بشكل مبالغ فيه بقضية الختان واعتبارها قضية دولة فى حين يتغاضى نفس هذا الاعلام عن قضية خصخصة التأمين الصحى التى قد تشكل خطرا داهما على ملايين المواطنين وبشكل مباشر سواء اقتصاديا او صحيا او اجتماعيا, وفى استطلاع للرأى حكومى مؤخرا حول قضية التأمين الصحى, اعرب 82% من المشاركين انهم لا يعلمون عن الموضوع شيئا على الاطلاق !, وهو سلوك جديد على الانسان الذى اعتاد على الخطر المباشر من وقت حياته بالكهوف حين كان يفاجىء بالحيوانات المفترسة تحيط بكهفه وتهدده وجها لوجه, تغيرت نظرة الانسان لما يحدث حوله بشكل لا يتوافق اطلاقا مع درجة الخطورة, وتبرز تلك الظاهرة بشكل واضح فى الانسان المصرى الذى اصبح لا يرى ابعد من اسفل قدمية, بل وقد يتغاضى عن مايراه فى الافق حتى يوهم نفسه بانه بخير وان القادم بالتأكيد سيكون افضل.

2- "إننا نرسل الطائرات المقاتلة النفاثة للقبض على الإرهابيين الذين قتلوا رجلا واحدا, لكننا لا نحرك إصبعا واحدا لننقذ اّلاف العائلات المنكوبة, او لتحسين حياة الكثيرين ممن اصيبوا بعاهات مستديمة وفقدهم المجتمع, قد يبدو الامر منافيا للعقل شاذا, لكن الناس يهملون الاخطار الثابتة المألوفة بالحياة اليومية, بل وحتى التى تهدد بالموت."

وهو ما نراه بوضوح فى مجتمعنا المصرى حاليا, فاذا حدثت جريمة قتل منظمة لتسعة اشخاص مثل مذبحة بنى مزار ينتفض المجتمع وتتحول القضية للصفحات الاولى بالجرائد وتتكلم عنها الفضائيات بحماسة منقطعة النظير, اما اذا تناولنا مشكلة مرضى الفشل الكلوى وفيروس الكبد الوبائى نجد انها اخبار عادية لا تشكل اى اهتمام لدى المواطن المصرى العادى رغم ان ضحاياها "يوميا" اضعاف حوادث القتل مجتمعة التى تنشر فى صفحات الجرائد بطول الجمهورية وعرضها !, كذلك نرى كيف اهتم الراى العام المصرى بقضية الطفلة هند المغتصبة اهتمام غير عادى, فى حين تجاهل تماما مجمل حوادث الاغتصاب والتحرش الجنسى التى تحدث يوميا وبشكل مرضى, والاهم انه تجاهل الاسباب التى ادت لكل تلك الحوادث سواء الاسباب الاجتماعية او الاقتصادية او النفسية, ويشير الكاتبين هنا الى ان ذهنية الانسان المعاصر لا تسمح بالاهتمام "بالكل" لان الكل لا يُرى ضررة مباشرة "كالجزء", وهو ما نراه مرة اخرى فى حادثة انتحار مهندس وابنتاه لانه لم يستطع توفير قوت يومه لاسرته, تلك الحادثة التى استحوذت على اهتمام المجتمع المصرى نظرا لماّساويتها وطبيعتها الصادمة, فى حين تغاضى نفس المجتمع ووسائل اعلامه عن اّلاف من الجوعى وساكنى القبور ومن يعيشون على مخلفات الطبقات الراقية ومن ينتحرون نفسيا ويهيمون على وجوههم فى شوارع القاهرة بلا مأوى او مركز نفسى يعالجهم, نرى تلك الظواهر وقد تملكت من الانسان المعاصر فى كل العالم وليس فى مصر فقط, فيورد الكاتبين مثال يوضح ان تلك سمة من سمات العقل البشرى الحديث الذى لم يتأقلم بعد على واقعه السريع التطور, فيقولون "فى كل شهر يُقتل المئات من الامريكيين او يصابون إصابات بالغة بسبب عدم نفخ إطارات السيارات كما يجب, ونتيجة لسوء محافظتهم على عرباتهم, إن اهمية هذا بالنسبة لنا تفوق بكثير عملية إغتيال قد يقوم بها إرهابى, إنها لا تسجل الكثير فى عقولنا المكركتة ( التى يسيطر عليها كاريكتير بعينه ), إذ يندر أن يكون لنفخ الإطار من الإثارة مثل ما لاختطاف الباخرة أكيل لاورو, او إنفجار مكوك الفضاء تشالينجر, أو حتى عبور جسر معلّق متأرجح فوق هوّة", بالطبع, انها النظرة الخاصة التى يحددها ادراكنا القاصر, والتى لا حاجة لنا بها الآن فى ظل العولمة وغزو الفضائيات لبيوتنا والاخطار التى انتجتها الحضارة الانسانية نتيجة لتطورها المتسارع بوتيرة لا نستطيع اللحاق بها.

3 - "إن الحمل الزائد من المعلومات بالمجتمع الحديث, إنما يعنى أنه من المستحيل حتى على اذكى البشر واغناهم ثقافة أن يخزّن أكثر من جزء ضئيل من حضارة مجتمعنا."

تلك الملحوظة البالغة الذكاء تشير ان المجتمعات الانسانية فى طريقها للتخلف عن ركب حضارتها التى صنعتها باياديها وعقولها, ويكمل الكاتب فيقول "يقولون ان جون ستيوارت ميل كان اخر رجل يعرف كل شىء, وقد يكون هذا صحيحا فى تفاصيله, وقد لا يكون, لكن تعقيد حضارتنا, كما راينا, قد تضاعف بشكل فلكى خلال المائة سنة الماضية.", ونحن بدورنا نتساءل, اذا كان الكاتب يتكلم عن مشكلة المجتمع الانسانى ويركز فيه على المجتمع الغربى المتقدم المثقف على وجه التحديد, فماذا عن مجتمعنا المصرى الذى يصنف على انه مجتمع بدائى من العالم الثالث لا يملك رؤية ثقافية ولا اتجاه علمى ولا تعليم راقى ؟ هانحن فى بدايات القرن الحادى والعشرين ولازال مجتمعنا يولى جلّ اهتمامه للقشور والسطحيات والغيبيات, ويعتمد بشكل اساسى على الثقافة السمعية اكثر بكثير من الثقافة المقرؤة او المرئية, وهو لا يكتفى بكونه مجتمع غير مثقف فقط, انما يواصل انهياره بكونه مجتمع رافض للثقافة, ونابذ للعلم, ومزدرى لاعمال العقل, ساخر من اهل القراءة والبحث والدراسة, وحالة مثل مجتمعنا تحتاج من الجهد والوقت والصبر ما يفوق الخيال حتى يستوعب ركب العلم والتقدم التكنولوجى الغير مسبوق فى تاريخ البشرية.

فى النهاية نقول ان اهمية الكتاب تنبع من انه يصلح كوثيقة تقدمية ينطلق منها الانسان العصرى لتغيير رؤيتة ونظرتة للعالم من حوله, واهميتة تتضاعف مئات المرات للانسان المصرى الذى لا يعلم حقيقة مقدار التغيرات التى تحدث حوله, حتى التغيرات القوية التى يوليها بعض الاهتمام مثل ارتفاع درجة حرارة فصل الصيف والرطوبة الغير محتملة يعزوها عادة الى تفسيرات بدائية لا محل لها من الاعراب فى زمننا الحالى, مثل القضاء والقدر او كونها مجرد هبة ريح ساخنة قادمة من الجزيرة العربية, ولا يعرف بالطبع ان تلك التغيرات المناخية ليست اقليمية او داخلية بالمعنى الشعبى الشائع, انما هى تغيرات تحدث فى جميع انحاء العالم حاليا ويعكف خبراء الارصاد وعلماء البيئة على دراستها بشكل مفصل وجاد حتى يتم تفادى نتائجها الكارثية مستقبلا والتى سبق وحذر منها العديد من المتخصصين, واهمها على سبيل المثال ارتفاع مستوى البحار والمحيطات مما سيؤدى الى غرق دلتا نهر النيل بكامل ما عليها من بشر ومدن واراضى زراعية, وهنا تكمن الكارثة, ما يراه الانسان المصرى العادى مجرد ارتفاع طفيف فى درجات الحرارة يراه من يملك العقل الجديد المساير لواقع البشرى الحديث خطر جسيم نتائجه على المدى الطويل كارثية.

فهل ينتبه اهل الخبرة والثقافة لخطورة تيّبس العقل المصرى فى حدود عالمه القديم ؟